أناماريا فارتولومي بدور "آن" في فيلم "Happening". مصدر الصورة: آي إف سي فيلمز (بالإنجليزية: IFC Films)/أسوشيتد برس
The English version of Abortion Lies, Secrets, and Silence
ترجمة هبة مصطفى
يستغرق الأمر بعض الوقت للملمة شتات أنفسنا وللتوفيق بين "المشاعر القاسية والرقيقة التي أشعر بها تجاه النساء اللاتي كنتهن"، كما تقول أدريان ريتش (بالإنجليزية: Adrienne Rich) في كتابها "عن الأكاذيب، والأسرار، والصمت" (بالإنجليزية: On Lies, Secrets, and Silence).
يلعب الفن، في أفضل أحواله، دور المُيسّر.
شعرتُ عند مشاهدتي للفيلم الفرنسي "Happening" (يعني حرفياً "حدوث")، المأخوذ عن رواية السيرة الذاتية للكاتبة "آني آرنو" (بالإنجليزية: Annie Ernaux) عن إجهاضها غير القانوني في فرنسا عام 1963، كما لو أنني كنت أقرأ خطاباً من ماضيّ إلى حاضري وكما لو أنني قد لملمت أخيراُ شتات نفسي وأجريت حواراً معها حول ما حدث.
أجريتُ إجهاضاً "غير قانوني" في مصر عام 1996 وآخراً "قانونياً" في الولايات المتحدة عام 2000، وأنا أشعر كما لو أني أشهد مرحلتين سرياليتين، إحداهما "قَبْلية" والأخرى "بَعْدية"، على وشك الحدوث في الولايات المتحدة لكن في الاتجاه المعاكس حيث تستعد المحكمة العليا لنقض الحكم الصادر في قضية "رو ضد وايد" (بالإنجليزية: Roe v Wade) عام 1973 بتشريع الإجهاض، وقد بدأ عرض فيلم "Happening" بشكل محدود في الولايات المتحدة بينما تقترب البلاد على نحو خطير من مرحلتي "القَبْلية" و"البَعْدية".
استخدمتُ علامتي تنصيص مع كلمتي "قانوني" و"غير قانوني" لأنني أرفض محاولة الدولة التحكم في رَحِمي، وأرفض سلطتها في تحديد ما هو "قانوني" أو "غير قانوني" عندما يتعلق الأمر بعمليتيّ الإجهاض اللتين أجريتهما، ولتنيك الدولة – والمحكمة العليا – نفسها بآرائها حول ما أستطيع وما لا أستطيع فعله برَحِمي بعيداً عني؛ فأنا وحدي من أمتلك حق التحكم به.
لعب فيلم "Happening"، الفائز بجائزة الأسد الذهبي المرموقة في مهرجان البندقية السينمائي، دور المُيسّر لمحادثة طال انتظارها بين مرحلتي "ما قبل الإجهاض" و"ما بعد الإجهاض"، للمفارقة، عن طريق الصمت.
لم تُذكَر كلمة "الإجهاض" ولا مرة واحدة، على نحو لا يدعو للاستغراب ومذهل في آن معاً، في فيلم يدور حول امرأة تبلغ من العمر 23 عاماً يزداد يأسها لإجراء عملية إجهاض. لم تشرّع فرنسا الإجهاض إلا في عام 1975، وفي عام 1963، عندما كانت "آن" بطلة الفيلم تريد إنهاء حملها لتتمكن من إكمال دراستها الجامعية وتصبح كاتبة، كان مجرد التحدث عن إنهاء الحمل أمراً خطيراً ناهيكن/م عن مساعدة أي امرأة في إجراء عملية إجهاض.
أُعدِمَت مُمارِسة الإجهاض "ماري لويز جيرو" (بالإنجليزية: Marie-Louise Giraud) بالمقصلة في فرنسا في عام 1943 – أي، قبل 20 عاماً فحسب من إجراء "آني آرنو" إجهاضها غير القانوني – لتكون آخر شخص يُعدَم بتهمة الإجهاض في فرنسا، وقد ألغت فرنسا عقوبة الإعدام في حالات الإجهاض بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، غير أن هذا البلد الكاثوليكي استمر في ملاحقة من يقومون به بضراوة.
كان إجهاض "آني أرنو" غير القانوني المرحلة "القَبْلية" وكان إجهاض مخرجة الفيلم "أودري ديوان" (بالإنجليزية: Audrey Diwan) المرحلة "البَعْدية" بالنسبة لي، ومع هذا كان الصمت – مجدداً – هو الفكرة المهيمنة.
كانت "ديوان"، التي وُلِدَت في عام 1980 – أي بعد أربعين عاماً من مولد "أرنو" – مُلمّة بروايات "أرنو" الأخرى لكنها لم تكن تعلم شيئاً عن رواية "Happening" حتى اقترحتها عليها إحدى صديقاتها بعد أن أجرت "ديوان" نفسها عملية إجهاض وأرادت أن تعرف المزيد عن تجربة النساء الأخريات.
قالت "ديوان" في حديث لها: "أعتقد أن عدم معرفتي بهذه الرواية لم يأتِ من فراغ؛ فقد أخبرتني "آني" بُعيد حديثي معها أن هذا هو الكتاب الوحيد الذي لم يلقَ أي صدى إعلامي من بين جميع كتبها. لم يبد الصحافيون/ات اهتمامًا به؛ فلم تكن لديهم الرغبة في سماع شيء عن موضوع الإجهاض غير القانوني".
تحدثت المخرجة عن غضبها حيال "قصة الإجهاض القانوني هذه. لا تستطيع النساء حتى تصور ما كان عليه الحال في ذلك الوقت. لم أكن أعرف حقيقة الإجهاض السري – الرحلة، والعنف، والتعقيد، والوحدة. كان هناك صمت يكتنف موضوع الإجهاض نوعاً ما، وأنا أعتقد أن الأمر ينطوي على الخوف؛ فنحن نخشى جسد المرأة وأسراره".
إذا كان الصمت جرساً يتدلى من عنق الإجهاض غير القانوني ويصدر صوتاً نشازاً يصم الآذان، فإن بمقدورنا بالتأكيد إزالة جرس الصمت والتخلص من ضوضائه بمجرد إلغاء تجريم الإجهاض، أليس كذلك؟
لم تقتنع "ديوان"، التي قضت ثلاثة أعوام في صنع الفيلم، بالحديث علانيةً عن إجهاضها إلا بعد أن ذكرت الممثلة التي تلعب دور مُمارِسة الإجهاض إجهاضها في مؤتمر صحفي في مهرجان البندقية السينمائي، وعن هذا قالت "ديوان" أنها أدركت عندئذ أن "بقايا هذا العار لا تزال تؤثر عليّ".
لا أحد يسمع صوت الصمت المحيط بإجهاضاتنا، إلا من يعرفن/يعرفون رنينه الخاص، ولمن عداهن/م يبدو هذا الرنين كالصمت، كالغياب.
طالما كان بوسع النظام الأبوي أن يكفن الإجهاض بالصمت، فإنه سيستمر في وسمه بالخزي، ولهذا كسرتُ أغلال صمتي لأتحرر من الخزي.
كانت هذه هي الطريقة التي ساعدتني بها البراعة الفنية للفيلم – والرواية المأخوذ عنها – على التوفيق بين "المشاعر القاسية والرقيقة التي أشعر بها تجاه النساء اللاتي كنتهن". استغرقت "آني أرنو" 37 عاماً للكتابة عن إجهاضها غير القانوني، وحتى الأعوام الثلاثة التي استغرقها العمل على تحويل رواية "أرنو" إلى فيلم لم تكن كافية لتشعر "أودري ديوان" بالارتياح لمشاركة تجربتها مع الإجهاض القانوني علانيةً.
يفصل بين "أرنو" و"ديوان" – ما هو غير قانوني وما هو قانوني – الكثير من الوقت ومع ذلك يجمعهما الكثير من الصمت، ومن الأهمية بمكان التمييز بين ما إذا كانت السرية أم الخصوصية هي التي تدعم هذا الصمت، كما تذكر "كارول سانغر" (بالإنجليزية: Carol Sanger) في كتابها "عن الإجهاض: إنهاء الحمل في أمريكا القرن العشرين" (بالإنجليزية: About Abortion: Terminating Pregnancy in Twenty-First-Century America).
تقول "سانغر" في كتابها هذا: "ما يهم هو أن نقر بالفارق الجوهري والهام بين هذين النمطين من الإخفاء عندما نتحدث عن موضوع الإجهاض وأن نقدّره؛ فإخفاء الإجهاض في عالمنا المعاصر لا يتواءم مع الخصوصية بل مع السرية، وهذه السرية ظاهرة أكثر قتامة، وأكثر إرهاقاً من الناحية النفسية، وأشد فتكاً اجتماعياً من الخصوصية".
تضيف أيضًا: "غالباً ما يكون قرار إبقاء الأمر سراً في سياق الإجهاض استجابةً لتهديد أو احتمالية حدوث ضرر، سواء كان مضايقةً، أو وصماً، أو خوفاً من العنف".
عدسة: روبرت إي. روتليدج
استغرق الأمر مني 25 عاماً للكتابة عن عمليتيّ الإجهاض اللتين أجريتهما، وقد أخبرتُ عدداً قليلاً من الأصدقاء المقربين عنهما على مر الأعوام، لكني أقر بأن السرية، وليس الخصوصية، هي التي دقت جرس الصمت لديّ.
كان أحد الأسباب التي دفعتني للتحدث أخيراً عن الأمر هو قول ما كنت أتوق لقراءته منذ فترة طويلة: لقد أجريتُ عملية إجهاض لأنني لم أرد أن أكون حاملاً، وهذا كل ما شيء؛ فقد بدا الأمر في كثير من السرديات التي قرأتها عن الإجهاض وكأن النساء كن يلتمسن رحمة ومغفرة ليس لأحد أن يعطيهما، وكما لو كان عليهن إثبات أنهن كن "جديرات" بالإجهاض" – سواء بسبب الألم الذي مررن به بفعل الطريقة التي أصبحن حاملات بها (الاغتصاب أو السفاح) أو الألم الذي كن سيتحملنه إذا ما استمررن في الحمل – وكما لو كان عليهن إثبات أن إجهاضهن كان "جيداً" لأنهن كن "جيدات".
وهذا في الولايات المتحدة حيث الإجهاض قانوني (حتى الآن)، لذلك تخيلن/وا حجم الصمت المضاعف في البلدان التي يكون فيها الإجهاض غير قانوني.
قصصنا مثل الأنجُم التي تدلنا على الطريق نحو التضامن، وهي تقول لنا تجمّعن/وا هنا وانبذن/وا الوحدة، فأنتن/م مهمات/ون، ويتمثل دور الفنانات/ين في وضع هذه الأنجُم في السماء.
طالما كان بوسع النظام الأبوي أن يكفن الإجهاض بالصمت، فإنه سيستمر في وسمه بالخزي، ولهذا كسرتُ أغلال صمتي لأتحرر من الخزي ولأقول ما أصبح الآن ترنيمتي التي أقولها في جميع مقالاتي التي أتحدث فيها عن الإجهاض: لم أتعرض للاغتصاب، ولم أكن مريضة، ولم يهدد الحملان حياتي، ولم يكن لديّ أطفال بالفعل. كل ما في الأمر هو أنني لم أرد أن أكون حاملاً، ولم أرد أن يكون لديّ أطفال، وأنا سعيدة لأنني أجريتُ إجهاضيّ لأنهما قد أعطياني الحرية لأعيش الحرية التي اخترتها.
قضيتُ أسابيعاً في البحث عن قصص الإجهاض على الإنترنت بعد أن أجريتُ إجهاضي "غير القانوني" في مصر؛ لأنني أردتُ – مثل "أودري ديوان" – التحدث إلى أحد ما عن ممارسة الجنس، وعن الإجهاض، وعن الرغبة في الاستمرار في ممارسة الجنس والاستمتاع به بعد الإجهاض. كنتُ مصرّة على تبديد فكرة أن الحمل والإجهاض كانا عقاباً لي على ممارسة الجنس؛ فقد كنت وقتها لا زلت أقاوم الإحساس بالذنب لممارسة الجنس قبل الزواج، وهو الأمر الذي قاومتُ (نفسي) من أجله بشدة، وأياً كانت الصدمة التي تعرضتُ لها فإنها لم تكن بسبب الإجهاض؛ فقد جعلني أشعر بالارتياح، بل بسبب الصمت والوصم.
كان جزء كبير من السرية التي اكتنفت إجهاضي "غير القانوني"، كما كان الحال بالنسبة لـ "آن"، ينطوي على الإقرار بأنني مارست الجنس قبل الزواج، وهو ما كان من المحظورات في فرنسا في عام 1963 وفي مصر في عام 1996 حيث لا يزال، ولكن حتى اليوم في فرنسا حيث الجنس ظاهرياً ليس من المحرمات والإجهاض قانوني، فإن السرية لا تزال تدفع "أودري ديوان" وغيرها من النساء إلى الصمت، فضلاً عن تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شهر آذار/مارس الماضي فحسب بأن الإجهاض "كان دائماً مأساة للنساء".
لم يكن إجهاضيّ مأساةً بالنسبة لي، بل أعطياني الحرية لأعيش الحياة التي اخترتها، وأنا أتحدث عنهما الآن بحماسة شخص تحرر حديثاً من أصفاد السرية والخزي.
تقول د. ميرا شاه (بالإنجليزية: Meera Shah) في كتابها "أنتِ الوحيدة التي أخبرتها بذلك: قصص عن الإجهاض" (بالإنجليزية: You're the Only One I've Told: The Stories Behind Abortion)، الذي تشارك فيه السرديات الشخصية لأشخاص أجرين/وا عملية إجهاض ولكنهن/م نادراً ما أخبرن/وا أي شخص عنها: "أحياناً، يكون السبيل الوحيد لخلق التغيير من أجل المستقبل هو سرد قصصنا من الماضي والحاضر".
تعلمتُ أن أستمع إلى ما كان يخبرني به الصمت المحيط بإجهاضيّ وأَسكتُ الخزي، وكان لابد لي أن أقوّض الصمت الذي يكتنف إجهاضيّ بإغراقه في التخريب.
قصصنا مثل الأنجُم التي تدلنا على الطريق نحو التضامن، وهي تقول لنا تجمّعن/وا هنا وانبذن/وا الوحدة، فأنتن/م مهمات/ون، ويتمثل دور الفنانات/ين في وضع هذه الأنجُم في السماء.
ويتمثل دور الفنانات/ون في وضع هذه النجمات/الأنجم في السماء. تقول لنا أنتن/م مهمات/ون.
تحدثت "آني أرنو" عن روايتها قائلة: "كتبتُ هذه الرواية لأحفظ ذكرى الوحشية التي تعرضت لها الملايين من النساء والفتيات، وكان عليّ أن أهبط أيضاً قدر ما أستطيع إلى ما كنت أطلق عليه، في وقت ما، ’صدمة الواقع‘".
وعندما نرى ما يكفي من هذه الأنجُم وعندما نسرد قصص حياتنا ونتذكر أننا مهمات/و، فإننا ننقل الخاص إلى العام ونفرض التغيير.
كتبتُ عن معرض "الإجهاض أمر طبيعي" الذي شارك في تنسيقه "جاسمين واهي" (بالإنجليزية: Jasmine Wahi) و"ريبيكا بولين جامبول" (بالإنجليزية: Rebecca Pauline Jampol).
قامت الفنانة "بولا ريغو" (بالإنجليزية: Paula Rego) بعمل سلسلة من الأعمال لتسليط الضوء على "الخوف والألم والخطر المصاحبين للإجهاض غير القانوني، والذي تلجأ إليه النساء اليائسات دائماً"، بعد إخفاق استفتاء لإلغاء تجريم الإجهاض في البرتغال في عام 1998، وقد كانت سلسلتها عن الإجهاض، والتي تصور نساءً في أعقاب عمليات إجهاض غير قانونية، جزءاً قوياً من الحملة التي أدت إلى استفتاء ثان، في عام 2007، شُرّع بعده الإجهاض أخيراً في البرتغال.
ساعدتني مشاهدة فيلم "Happening" على الالتقاء مجدداً بنفسيّ الأصغر سناً – مُنى التي أجرت إجهاضاً غير قانوني ومُنى التي أجرت إجهاضاً قانونياً – وقد تعلمتُ أن أستمع إلى ما كان يخبرني به الصمت المحيط بإجهاضيّ وأَسكتُ الخزي، وكان لابد لي أن أقوّض الصمت الذي يكتنف إجهاضيّ بإغراقه في التخريب حتى أكون رقيقة وغير قاسية مع نفسيّ الأصغر سناً؛ فالشيء الأكثر تخريباً الذي يمكن لأي امرأة فعله هو أن تتحدث عن حياتها كما لو أنها مهمة، لأنها بالفعل مهمة.
منى الطحاوي كاتبة نسوية ومُعلّقة ومخرّبة للنظام الأبوي. يستهدف كتابها الأول الحجاب وغشاء البكارة: لماذا يحتاج الشرق الأوسط إلى ثورة جنسية (2015) النظام الأبوي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بينما ينقل كتابها الثاني الخطايا السبعة الضرورية للنساء والفتيات (2019) تخريبها للنظام الأبوي للعالم بأسره، وهو متاح الآن في إيرلندا والمملكة المتحدة. وقد نُشرَت تعليقاتها وآراؤها في الكثير من وسائل الإعلام حول العالم، كما أنها تصدر مقالات فيديو وتكتب رسائل إخبارية بعنوان "العملاقة النسوية" FEMINIST GIANT.
ستبقى رسائل "العملاقة النسوية" الإخبارية مجانية دائمًا لأنني أريدها أن تكون متاحة للجميع، لكن إذا قررتن/م اختيار الاشتراك المدفوع فأشكركن/م على ذلك! وممتنة لدعمكن/م! وإذا أعجبكن/م مقالي هذا وأردتن/م دعم كتاباتي بصورة أكبر، فيمكنكن/م الإعجاب/التعليق أدناه ومشاركته مع الآخرين والاشتراك باشتراك مدفوع – إذا لم تكنّ/تكونوا قد قمتن/م بذلك بالفعل – أو إهداء الاشتراك لشخص آخر اليوم